كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحاصل: أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصًا بالنبيّ في قوله: {أَقِمِ الصلاة}، فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل، فإنه يعمّ جميع الأمة، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف.
ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قد ذكرنا في مواضع أن {عسى} من الكريم إطماع واجب الوقوع، وانتصاب {مقامًا} على الظرفية بإضمار فعل، أو بتضمين البعث معنى الإقامة، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال أي: يبعثك ذا مقام محمود؛ ومعنى كون المقام محمودًا: أنه يحمده كل من علم به.
وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال: الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل، قال الواحدي: وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة.
القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاء النبيّ لواء الحمد يوم القيامة.
ويمكن أن يقال: إن هذا لا ينافي القول الأوّل، إذ لا منافاة بين كونه قائمًا مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد.
القول الثالث: أن المقام المحمود: هو أن الله سبحانه يجلس محمدًا صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث.
وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث.
قال ابن عبد البرّ: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا، والثاني في تأويل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 23].
قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر. انتهى.
وعلى كل حال فهذا القول غير منافٍ للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة.
القول الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة، فالمصير إليها متعين، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله: وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق، كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا قال هنا.
وقيل: المراد: الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله، يعني: لفظ المقام، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف، فلا نطيل بذكره.
{وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ}.
قرأ الجمهور: {مدخل صدق ومخرج صدق} بضم الميمين.
وقرأ الحسن، وأبو العالية، ونصر بن عاصم بفتحهما، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود أي: إدخالًا يستأهل أن يسمى إدخالًا، ولا يرى فيه ما يكره.
قال الواحدي: وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير، وقيل: المعنى: أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل: المعنى: أدخلني فيما أمرتني به، وأخرجني مما نهيتني عنه، وقيل: إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول الأوّل، وقيل: المراد إدخال عزّ وإخراج نصر، وقيل: المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق، وقيل: أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق.
وقيل: الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء، ومعناها: ربّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها.
{واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} أي: حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقيل: اجعل لي من لدنك ملكًا وعزًا قوّيًا وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا.
وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير.
قال ابن كثير: وهو الأرجح لأنه لابد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25] وفي الحديث: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي: ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيرًا من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع. انتهى.
{وَقُلْ جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل} المراد بالحق: الإسلام، وقيل: القرآن، وقيل: الجهاد ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائنًا ما كان، والمراد بالباطل: الشرك، وقيل: لشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل.
ومعنى زهق: بطل واضمحل، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} أي: إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائمًا.
{وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} قرأ الجمهور: {ننزل} بالنون.
وقرأ أبو عمرو بالتخفيف.
وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، و{من} لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس.
وقيل: للتبعيض، وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين: الأوّل: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه.
القول الثاني: أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوّذ ونحو ذلك، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز، أو من باب حمل المشترك على معنييه.
ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سببًا لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44].
ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين، ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرّة عليهم فقال: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} أي: ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان {إَلاَّ خَسَارًا} أي: هلاكًا، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّدًا وعنادًا، فعند ذلك يهلكون؛ وقيل: الخسار: النقص كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125].
ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان} أي: على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى {أَعْرَضَ} عن الشكر لله والذكر له {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} النأي: البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة، وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي: ناحيته، والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا: الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به، ويراد بالنأي بجانبه: التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم.
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر: {ناء} مثل باع بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة: {ناءى} بإمالة الفتحتين ووافقه الكسائي، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط.
وقرأ الباقون بالفتح فيهما {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} من مرض أو فقر {كَانَ يَئُوسًا} شديد اليأس من رحمة الله، والمعنى: أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
ونظائره، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد أن يقال: لا منافاة بين الآيتين، فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه.
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} الشاكلة قال الفراء: الطريقة، وقيل: الناحية، وقيل: الطبيعة، وقيل: الدين، وقيل: النية، وقيل: الجبلة، وهي مأخوذة من الشكل، يقال: لست على شكلي ولا على شاكلتي، والشكل: هو المثل والنظير.
والمعنى: أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلًا} لأنه الخالق لكم، العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم.
ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} قد اختلف الناس في الروح المسئول عنه، فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين.
قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحدًا من خلقه، ولم يعط علمه أحدًا من عباده فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} أي: إنكم لا تعلمونه، وقيل: الروح المسئول عنه جبريل، وقيل: عيسى، وقيل القرآن، وقيل: ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل: خلق كخلق بني آدم، وقيل: غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} {من} بيانية، والأمر: الشأن، والإضافة للاختصاص، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده، وقيل: معنى {مِنْ أَمْرِ رَبّى} من وحيه وكلامه لا من كلام البشر.
وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلًا عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه.
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} أي: أن علمكم الذي علمكم الله، ليس إلاّ المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظًا من العلم وافرًا، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلاّ كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهم السلام.
وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: {دلوك الشمس}: غروبها، تقول العرب إذا غربت الشمس: دلكت الشمس.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن علي قال: دلوكها: غروبها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس، قال: {لِدُلُوكِ الشمس}: لزوال الشمس.
وأخرج البزار، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دلوك الشمس زوالها» وضعف السيوطي إسناده.
وأخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله.
وأخرج عبد الرزاق عنه قال: دلوك الشمس: زياغها بعد نصف النهار وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن ابن عباس قال: دلوكها: زوالها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عنه في قوله: {لِدُلُوكِ الشمس} قال: إذا فاء الفيء.
وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}.
وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه.